من طالبة مميزة في الجامعة إلى موظفة فيها.. براءة قدسية.. طاقة متوهجة رغم الإعاقة


نشر بتاريخ: 28-02-2015

الطالبة براءة سعيد ذيب قدسية تبلغ من العمر (23) عاما، تعاني من تشوهات خلقية في العمود الفقري تسبب بعدم اتزان وبانحراف في العمود الفقري، احتضنتها جامعة القدس المفتوحة طالبة وموظفة. التحقت بالجامعة في العام 2009 فقدمت لها الكثير من المساندة والدعم لإكمال مسيرتها التعليمية ثم احتضنتها موظفة في كادرها الإداري بعد التخرج. 
ولدت براءة قدسية في مدينة جنين عام 1991، وهي الطفلة الأولى في الأسرة، كانت حياتها طبيعية كسائر الأطفال، تمتعت بحب والديها ورعايتهما، وعرفت بذكائها الذي شهد له جميع من عرفها. نطقت بكلمات غير مفهومة حين كان لها ستة أشهر، وبدأت إعاقتها تتضح بعد مرور سنة ونصف السنة من عمرها. تقول قدسية: "بدأ أهلي يلاحظون عليّ بعض الصعوبات في تحريك رقبتي، فعرضوني على أكثر من طبيب داخل الوطن وخارجه"، منوهة بأن الأطباء لم يتعرفوا في البداية على طبيعة ما تعانيه، وظنوا أن ذلك نتيجة خطأ في أثناء الولادة تسبب فيه الأطباء، ثم ذهبت برفقة عمتها إلى مدينة القدس ليكتشف الطبيب هناك أنها تعاني من تشوهات خلقية في الفقرات الظهرية ينتج عنها تشوهات في العمود الفقري وعدم اتزان فيه وفي الأطراف السفلى.
وتضيف: "منذ ذلك الحين وأنا أتنقل من طبيب إلى آخر في الداخل والخارج، وخضعت للعلاج الطبيعي بين الفينة والأخرى دون جدوى، وظل مرضي يزداد حتى أصبحت على ما أنا فيه اليوم".
لم تفقد براءة الأمل في الشفاء، فقد أبلغها الأطباء أن عملية جراحية لإيقاف تفاقم المرض يمكن أن تجرى لها بعد مرور ثلاث عشرة سنة من عمرها، فانتظرتها براءة ثم خضعت لعدد من التدخلات الجراحية باءت كلها بالفشل.
تكبر براءة ويكبر معها المرض، أخبرها الأطباء في آخر زيارة علاجية أن إصابتها بالشلل الكلّي أو موتها خلال إجراء العملية خياران واردان، تقول: "كنت في تلك الفترة أعي ما يدور حولي، آمنت بقضاء الله وقدره، وقررت أن أبقى على ما أنا فيه، لأن فكرة أن أكون عاجزة تمامًا أو بحاجة دائمة للمساعدة أرعبتني".
كانت تسافر كل ستة أشهر إلى الخارج لتلقي العلاج وإجراء الفحوص لمتابعة وضعها الصحي غير المستقر، لكن مشقّة العلاج والسفر المتكرر باتا جزءًا تعانيهما، فأسئلة الناس ونظراتهم تطاردها باستمرار وتحرجها بل وتجرحها، لكنها تغلبت على هذا، وتسرد: "بالصبر والإرادة ومحبة والديّ ومن حولي وزرعهم الثقة في نفسي تجاوزت كل هذه الصعوبات، فلا فرق بيني وبين أي شخص آخر، فكنت أعامل كما يعامل الأسوياء، لم أحرم من أي شيء كان والحمد لله".
حرص والدا براءة منذ صغرها على تشجيعها على التعليم، رغم رفض المؤسسات التعليمية تبنيها كإحدى طالباتها خوفًا من أي طارئ يعرض حياتها للخطر، فلم تكن الروضات والمدارس مستعدة للتعامل مع مثل هذه الحالات، لكن والدها لم يستسلم وألحقها بمدرسة خاصة، فدرست وتفوقت وحصلت على شهادات تقديرية متتالية حتى وصلت الثانوية.
قررت براءة الالتحاق بالمدارس الحكومية لقناعتها بأنها، كأي فتاة في عمرها، يمكنها الاعتماد على نفسها والمضي في التعليم بوجه اعتيادي، وعن هذا تقول: "كانت معلماتي متفهمات لوضعي وساعدنني كثيرًا"، كانت معاناتها الكبرى حينئذ في حصة "التربية الرياضة" إذ لم يكن بمقدورها الركض أو تنفيذ بعض الحركات، فقلبها لا يحتمل ذلك الشقاء الجسدي، وتفاقم مرضها أضعف رئتيها وقلبها، حتى باتت تعاني من صعوبات في التنفس رغم العمليات الجراحية الكثيرة التي أجريت لها، لدرجة أن إصابتها بالزكام يعرض حياتها للخطر.
اجتازت براءة امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) بالفرع التجاري، فكان هذا جزءا من طموحها الذي أصرت على تحقيقه لتبدأ رحلة جديدة، رحلة التعليم الجامعي..  تقول: "اجتزت (التوجيهي) بمساندة أهلي وإصراري، واقترحت عائلتي وأصحابي أن ألتحق بجامعة القدس المفتوحة لمرونة الدوام فيها، في البدء رفضت الفكرة لأني لم أكن ملمة بالنظام التعليمي الذي تنتهجه الجامعة، لكن مع إصرار أهلي ودراستي للظروف والتسهيلات التي تقدّمها الجامعة، قررت أن التحق بـ"القدس المفتوحة".
التحقت براءة بكلية العلوم الإدارية والاقتصادية (تخصص إدارة الأعمال)، ودخلت الحرم الجامعي وهي تخاف من أن تكون قد اتخذت خيارًا خاطئًا، لكن سرعان ما تبدّد هذا الشعور، وأحست بأن الجامعة كانت منزلها الثاني وعائلتها الأخرى، إذ حظيت بدعم لم تكن تتوقعه، وساعدها النظام التعليمي المفتوح على اجتياز البكالوريوس بكل يسر، تقول مبتسمةً: "دخلت الجامعة وحيدة وخرجت بعائلة كبيرة، وتركتُ بصمة لا تنسى وبسمة على شفاه كل من يتذكرني وتعامل معي، ولن أندم أبدًا على دخولي الجامعة، فقد أحببت تخصّصي الذي يعبّر عن شخصي وعما أطمح لتحقيقه".
وعن رحلتها الجامعية تضيف براءة: "في سنتي الدراسية الثانية ألقيت كلمة في حفل تأبين المرحوم الشهيد قدورة موسى (محافظ جنين السابق) الذي كان قبل استشهاده يجاور منزلي، وكان يتصدر الحضور يومئذ رئيس الجامعة أ. د. يونس عمرو، الذي صافحني بحرارة عندما أنهيت كلمتي، فأحسست أن شخصيتي خلال الإلقاء نالت إعجابه رغم أنه لم يكن يدري أنني طالبة في "القدس المفتوحة"، وعندما أخبرته بفخر أنني ابنة "القدس المفتوحة" تفاجأ وأحس بالفخر". وفّر لها أ. د. عمرو منحة دراسية كاملة لتستكمل تعليمها الجامعي.
تخرجت براءة في أيار من العام 2014، لكنها لم تتوقع في يوم ما أن تكون جزءًا من طاقم الجامعة. فانطلاقًا من مسؤولية الجامعة الاجتماعية والتزامها بتوظيف أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولتميز براءة في مسيرتها التعليمية، طلب منها رئيس الجامعة أ. د. يونس عمرو التقدّم لامتحانات القبول التي تجريها الجامعة للمنافسة في الوظائف المعلن عنها، فكان أن اجتازت الامتحان بتقدير (جيد جدًا)، وعلى ذلك قررت رئاسة الجامعة احتواءها موظفة في قسم القبول والتسجيل بفرعها في مدينة جنين، ليبدأ بذلك مشوار حياتها العملي في تشرين الآخر من العام 2014.
وعن آمالها وطموحاتها، تؤكد براءة أنها لن تقف هنا، بل ستكمل مسيرتها التعليمية، تقول: "ما زلت أطمح للمزيد من التقدم في المستقبل، وسأكمل مسيرتي التعليمية محاولة الوصول إلى أعلى المراتب التعليمية، فطموحي لا تحده قيود، ولن أنسى-ما حييت-كل ما عانيت منه في حياتي من سوداوية، وشعور بالوحدة، ولحظات مؤلمة تبادلني السؤال عن نصيبي ودوري في هذه الحياة، وكل تلك الأفكار التي تتلاعب في رأسي. ومع كل هذا فالأمل لا يلبث أن يملأ جوانحي وتعاودني البهجة حين أنسى واقعي المؤلم، وسأحاول دائما أن أجعل الضوء في عيون الآخرين شمسا دافئة وقمرا منيرا، وسأبقى كما أنا شقية مرحة عفوية وقوية وعنيدة واستثنائية لا أشبه أحدا ولا أحد يشبهني".