نزيف العقول.. يعززها الحصار وتغذيها أحلام وردية


نشر بتاريخ: 17-02-2019

 
أ. خالد سمير عيد*
 
في مساحة جغرافية ضيقة كقطاع غزة، وبأعداد سكانه التي فاقت المليونين، وأعداد الخريجين العاطلين عن العمل التي زادت عن مئة ألف، وأكثر من ضعفهم عمال بلا عمل، وشهادات عليا بات مكانها الإطار والصورة بدلاً من المصنع أو المشغل.. أصبحت ناصية الشارع ملاذهم حيث لا حول لهم ولا قوة، فيهربون من بيوتهم ليس بحثاً عن العمل المعدوم، بل هرباً من واقعهم المرير الذي يحاصرهم. هذه العقول أمست مشلولة لا تحلم إلا بالهجرة هروباً من هذا الواقع وأملاً في تحقيق ذواتهم، فتجد الطبيب والمهندس والفني والمبرمج والصحفي وغيرهم الكثير يحلمون دائماً بالهجرة.
 
هجرة تزداد وتيرتها كلما سنحت الفرصة أمام سكان قطاع غزة بالخروج، خاصة في أعقاب الحروب المتعاقبة  التي تفرض على غزة من حين لآخر، وفي ظل ازدياد الأوضاع الإنسانية قسوة بعد اثني عشر عاماً حصاراً، وتزايد البطالة بين الكفاءات العلمية المتنوعة مثل الأطباء والمهندسين والمدرسين والفنيين وغيرهم الكثير من المتخصصين في شتى المجالات، وأصبح هؤلاء جميعاً يتمنون لو يجدوا وطناً بديلاً يحسون فيه بالأمان المعيشي والوظيفي والنفسي أيضاً بعيداً عن المناكفات السياسية والفقر والحروب وغيرها من العوامل التي تجعل العقول الفلسطينية تفكر في الهجرة للخارج والخروج لمصير مجهول في دول لا يعرفون عنها شيئاً، ولكن ضيق الحال دفعهم للخروج بدون تفكير أملاً في النجاح وبناء مستقبل أفضل.
 
وعن أسباب الهجرة، يقول د. يوسف عوض الله، الأخصائي النفسي: "تعد ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه البلدان النامية، ولا سيما فلسطين، من الناحية العلمية والمادية والاجتماعية، كما أنها تؤثر على خططها التنموية أيضاً وحرمان المجتمع من الاستفادة من خبرات هذه الكفاءات ومؤهلاتها. وعلى مدار سنوات مضت، عانت الأراضي الفلسطينية من هجرة شبابها وكوادرها وكفاءاتها العلمية للخارج في ظل انعدام الفرص وتدهور الأوضاع الأمنية وشلل الاقتصاد، وباتت الهجرة هي الحل الأمثل لهم".
 
وتبدأ فكرة الهجرة لدى خريجي الثانوية العامة، وخاصة الأوائل منهم الذين يعتبرون التعليم سبيلاً للخروج من غزة، وإنهم مع إبداعهم في دول الغرب يفضلون البقاء هناك على العودة إلى غزة التي ينعدم فيها الأمل لأسباب عدة، ثم تستمر الفكرة لدى خريجي الجامعات الذين يكملون الدراسات العليا ويواصلون رحلة الهجرة بعد التخرج، لكن اللافت هو ازدياد الهجرة في أوساط الأطباء والمهندسين والكفاءات العلمية، فقد سجل العام الأخير (2018) خروج العشرات بل المئات منهم، وكان بعضهم ضحية مناكفات سياسية وعدم الشعور بالأمن الوظيفي الذي انتزع من كل القطاعات الفلسطينية العاملة، كما أن الحصار الخانق الذي نعانيه كان سبباً من أهم الأسباب في ذلك.
 
 
 
 
يزيد الانقسام الفلسطيني من عمق أزمة الهجرة لدى الطامحين في الحصول على وظيفة، التي أصبحت تبنى في كثير من المؤسسات الحكومية والخاصة على الانتماء الحزبي، ما دفع شريحة واسعة من حملة الشهادات للخوف على مستقبلهم في حال المصالحة، وفي ظل الحديث عن إيقافهم عن العمل، أو دفعهم للتقاعد وهم في قمة العطاء، ما يدفع الكثير منهم للبحث عن مستقبل أفضل خارج غزة.
 
رغم الدرجات العلمية التي يحملها البعض إلا أنهم يهاجرون؛ إما هجرة بطريقة شرعية أو غير شرعية، كلٌ حسب مقدرته وإمكاناته، بحثاً عن الحياة والمستقبل والعمل والاستقرار وتطوير الذات وتحقيقها، وهروباً من واقع مرعب ومستقبل مجهول.
 
وبحسب خبراء الاقتصاد والتنمية البشرية، فإن زيادة نسبة نزيف العقول والشهادات والخبرات تنعكس بالسلب على المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في فلسطين، كما يؤثر سلباً في الناتج المحلي.
 
وبغض النظر عن صحة الأرقام المتداولة حول أعداد المهاجرين من ذوي الخبرات والكفاءات، فقد حان الوقت لإعادة النظر في مشكلة نزيف العقول والكفاءات العلمية الفلسطينية التي تعدّ قاعدة الارتكاز لانطلاق عمليات التنمية بجميع جوانبها، وذلك من خلال وضع استراتيجيات فاعلة للتنمية البشرية تهدف في المقام الأول إلى توفير البيئة المناسبة لهذه الكفاءات لضمان الاستثمار الأمثل للعنصر البشري الذي يعد المفتاح لتحقيق النمو من أجل غد أفضل لمستقبل الأجيال القادمة، التي ستسهم في عملية التنمية والبناء والتطوير. 
 
*عضو هيئة تدريس في فرع رفح