مخاطر استخدام العامية في وسائل التواصل الاجتماعي


نشر بتاريخ: 17-02-2019

د. مدحت دردونة*
عاشت الأمة العربية عبر تاريخها الطويل حالات من الانتصار والانكسار، وقد نعمت بالاستقرار والأمن في ظل راية الوحدة فعلا شأنها وازدهرت ثقافياً وحضارياً في فترات تاريخية طويلة، ثم مرت عليها أحوال من التشرذم والتمزق والضعف فهانت في أعين أعدائها، وجعلوا يتكالبون عليها ويتسابقون إلى نهب خيراتها ويسيمون أبناءها كل ألوان العذاب. وبرغم كل ذلك بقيت روح هذه الأمة نابضة بالحياة، قادرة على النهوض من كبوتها بفضل ما يتوفر لديها من مقومات، وفي مقدمة ذلك اللغة المشتركة التي تجمع أبناء هذه الأمة من المحيط إلى الخليج، فهي مستودع تراثهم ومفتاح أفكارهم وعواطفهم، وهي عنوان وجودهم ومقوم أساسي من مقومات وحدتهم، وهي قبل كل ذلك جزء من عقيدتهم.
     أدرك الاستعمار منذ بواكير عهده مع الشعوب العربية خطورة أن تبقى اللغة العربية الفصحى عامل وحدة لهذه الشعوب، فسعى بأساليبه الخبيثة إلى النيل منها ومحاولة طمسها من خلال دعوات مسمومة إلى التخلي عن اللغة الفصحى كتابة وقراءة واستخدام العامية بدلاً منها، بحجة أن الفصحى لغة عقيمة وصعبة التعلم، وأن التعامل بها في الحياة اليومية أمر أكثر صعوبة، أما العامية فهي لغة حية ومتطورة وتتميز بصفات تجعل منها أداة طيعة للفهم والإفهام، وهي - على كل حال – أداة يستخدمها الناس في كل أوقاتهم ولقضاء أغراضهم كافة، الأمر الذي يجعل العربي يتجاوز صعوبة اللغة لينطلق إلى آفاق الإبداع والابتكار .
       وأول هذه الدعوات المسمومة كانت عل يد المستشرق الألماني ولهلم سبيتا عام 1881 م، تبع ذلك دعوة مهندس الري الإنجليزي في مصر وليام ولكوكس عام 1893م، ثم تبعه عام 1901م القاضي ولمور. ونحن لا نستغرب هذه الدعوات من الاستعمار ورجالاته، ولكن المؤلم في الأمر أن ينجر وراء هذه الدعوات أعلام من العرب من أمثال: قاسم أمين، وسلامة موسى، وأنيس فريحة، وسعيد عقل، وآخرين ممن لا نعرف أهدافهم الحقيقية من وراء هذا التوجه، لكن هذه الأمة وقواها الحية بقيت متيقظة لكل ما يحاك لها من مؤامرات، ولهذا وجدنا من علمائنا من وقف في وجه هذه الدعوات المسمومة، ودافعوا عن العربية الفصحى، وأجهضوا كل مخططاتهم، أمثال: مصطفى صادق الرافعي، وساطع الحصري، وإسعاف النشاشيبي، وعمر فروخ، وغيرهم. 
     والمقام هنا لا يتسع للرد على خطورة مثل هذه الدعوات وتهافتها أمام النقد الموضوعي، ولكن يكفي أن نسأل أنفسنا ونسألهم معنا: أية عامية يقصدون؟! ففي الوطن العربي عشرات العاميات، بل المئات إذا أخذنا في الاعتبار ما في كل بلد من تنوعات لهجية إقليمية، فلو كتب أبناء كل إقليم بلهجتهم سنرى العجب العجاب من أخلاط وأمشاج لغوية، لا يفهمها إلا محيط ضيق من مستخدميها، وينقطع التواصل مع باقي أبناء الأمة، بل ربما أبناء البلد الواحد، فضلاً عن أن ترك الفصحى يؤدي بعد حين إلى نسيانها تماماً، وهي كما نعلم لغة القرآن الكريم، وهكذا يحقق الاستعمار مآربه في تمزيق الأمة، وطمس هويتها، وإبعادها عن دينها حتى لا يعود لها أمل في النهوض من جديد.  
       نحن لا ننكر صعوبة قواعد اللغة العربية الفصحى وتشعباتها، ولم نسمع يوماً بمن يطالب الناطقين بالعربية أن يتمكنوا من كل هذه القواعد، فمعرفة ذلك يكاد ينحصر في المتخصصين بالدراسات اللغوية، أما عامة المثقفين فيكفي أن يكتبوا ويتحدثوا في مواقف الاتصال الرسمية أو التي تنقل عبر وسائل اتصال واسعة الانتشار بلغة فصحى مبسطة قادرة على نقل الأفكار والمعاني بيسر وسهولة.
      لقد شهدت السنوات الأخيرة ثورة كبرى في عالم الاتصالات، حتى أصبح العالم كله كأنه قرية واحدة، ومن بين أكثر وسائل الاتصال انتشاراً في العالم وسائل التواصل الاجتماعي، وتعد اللغة المكتوبة الأداة الرئيسة في هذه الوسائل، فكيف نتواصل مع من أبناء أمتنا بلغة مشتركة يفهمها الجميع بعيداً عن الظواهر اللهجية المحلية؟ وما هي الخطوة الأولى الواجب اتخاذها في هذا الاتجاه؟ 
      إن الدعوة إلى استخدام الفصحى النموذجية دفعة واحدة أمر ربما يشق على كثير من مستخدمي وسائل الاتصال الاجتماعي، وبالتالي تذهب الجهود الطيبة أدراج الرياح، ولكن الحل يكمن بداية في تحديد المفردات التي يشيع استخدامها بمنطوقات مختلفة في العاميات العربية وبديلها الفصيح سهل وميسور. ومن هذه الألفاظ مثلاً: 
* ضمائر الجر المسبوقة باللام (لي، لنا، لك، لكم، لهم، لهنّ)، فكثير من العاميات العربية تلحق بها الهمزة المكسورة إذا بدئ بها الكلام، فيقولون: إلي، إلنا، إلك، إلكو، الهم، إلهن. وعاميات أخرى يقول أبناؤها: لينا، ليك، ليكو، ليهم ...إلخ. بل أكثر من ذلك ما نجده في معظم لهجات بلاد الشام من شعورهم بضعف حرف الجر بعد إلحاق الهمزة المكسورة، فيلجأون إلى إضافة حرف جر جديد، ويقولون: لإلنا، لإلك، لإلهم ...إلخ. أليس الأفضل لنا والأسهل علينا بعد كل هذا الخلط والتشويه لبنى الكلمات أن نستخدم الصيغة الفصيحة لمثل هذه الضمائر؟
     * يستخدم أبناء الأمة العربية ظرف الزمان (الآن) بألفاظ عدة في عامياتهم، منها: هلّا، هلقيت، دلوقت، هالحين، هسا، هسّع. وهي -لا شك – ألفاظ منحدرة من أصول فصيحة، ويمكن ردها بإجراء بعض التحوير على بنيتها الصوتية، ولكن هذا التعدد في الصيغ المستخدمة يعيق التواصل السهل بين أبناء اللغة الواحدة، فهل من الصعب علينا أن نوحد اللفظ ونستخدم في كتاباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي كلمة (الآن) ؟!  
    * كما نترك في عامياتنا استخدام اسم الاستفهام (ماذا؟) ونستبدل به كلمات مثل: (إيش؟ شو؟ شنو؟ شِن؟ واش؟ إيه؟)، وبالمثل أيضاً نستخدم ألفاظ الاستفهام (ليش؟ ليه؟ لشو؟) بدلاً من كلمة (لماذا؟). والكلمتين (شلون؟ ازّاي؟) بدلاً من (كيف؟). 
   * كما يشيع استخدام حرف الحاء أو الفعل المساعد (بد) مضافاً إليه الضمير للدلالة على المستقبل بدلاً من حرفي التسويف (السين، وسوف) فيقولون: (حنروح، أو بدنا نروح) و(حنعمل، أو بدنا نعمل) و (حنكتب، أو بدنا نكتب) ... إلخ. وقد نجد من يقلب هذه الحاء هاء كما في لهجة بعض المصريين. مع ملاحظة أن الفعل المساعد (بد) مع الضمير له استخدام آخر بمعنى (أريد)، فهل كتابة السين أمر شاق إلى هذا الحد حتى نستبدل به كل هذا الخلط ؟!  
     أما إذا انتقلنا إلى مستوى الإملاء، فإننا ندهش عندما نرى وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالنوادر، ولا نقصد هنا الأخطاء الإملائية التقليدية، وإنما توهم بعضهم أن الضم المصاحب لضمير المفرد الغائب في المنطوق (إنه) هو حرف الواو، فيكتبونها، ويسقطون الهاء – في الأعم الأغلب-فتصبح في الكتابة هكذا (إنّو)، كما يتوهم بعضهم أن الجار والمجرور (لي) و (له) جزء من الكلمة السابقة، فيكتبون: (طالعلي، طالعلو) و(عاملّي، عاملّو) و (بايعلي، بايعلو) ... إلخ، هكذا بدون فصل، وبالتصرف في ضمير الغائب كما هو واضح. وأشباه ذلك كثير لا مجال هنا لاستقصائه، وإنما أشرنا إلى هذه النماذج على سبيل المثال.
      وبعد، فإن التحديات التي يمر بها عالمنا العربي في هذه الأيام أقوى وأعنف، فهي تحديات تتعلق بالهوية والوجود وكل مقومات الحياة، فضلاً عن محاولة تجريف الوعي العربي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وإذا كان الاستعمار قد نجح في صناعة الحدود بين أبناء هذه الأمة، فهو لا يفتأ يعمل على تكريس حالة التبعية والفقر وزرع الفتن والدسائس وتشجيع الجماعات الانفصالية وتمويل التطرف حتى لا يترك لنا أدنى فرصة لالتقاط الأنفاس وتحديد الأهداف. وهنا لا بد لنا من التمسك بخط الدفاع الأخير والأقوى ألا وهو اللغة المشتركة بيننا جميعاً، تلك اللغة التي لا يستطيع مستعمر حاقد أو حاكم مستبد أن يلغيها بقرار، ولذا ندعو أبناءنا إلى البدء باختيار البدائل الفصيحة التي تجمع ولا تفرق، وتيسر الاتصال ولا تعطله حتى ولو كانت البداية باختيار بديل فصيح واحد أو اثنين، فالمهم هو البداية، لننطلق بعد ذلك في خطوات مدروسة نحو استخدام عربية فصحى مبسطة نستخدمها في وسائل التواصل، وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، وإلا فسنجد أنفسنا سائرين بمحض إرادتنا في الطريق الذي يحقق لأعدائنا مخططاتهم التي حاكوها منذ عشرات السنين .  
*عضو هيئة تدريس في فرع شمال غزة