المحرر نائل البرغوثي.. "القدس المفتوحة" فتحت لي أبواب التعليم الموصدة


نشر بتاريخ: 26-03-2014


 

رام الله– ينابيع- بهاء الخطيب- "القدس المفتوحة، هي الجامعة الوحيدة التي فتحت لي أبواب التعليم الموصدة أمام الأسرى المحررين بعد عامين من تحرري من سجون الاحتلال التي قضيت فيها قرابة ثلاثة عقود".

بهذه الكلمات بدأ حديثه الأسير المحرر نائل البرغوثي، الذي خرج ضمن صفقة التبادل الأخيرة الشهيرة بصفقة شاليط، وأشار إلى أنه حاول مرارًا الالتحاق بالجامعة من داخل سجنه، لكن دون جدوى، فوجد ضالته في القدس المفتوحة فور خروجه، حيث انضم إلى مقاعد دراستها في فرع رام الله والبيرة.

ويتحدث البرغوثي عن العديد من المحاولات التي بذلها الأسرى للالتحاق بسلك التعليم الجامعي داخل الأسر، لكنها لم تفضِ إلى شيء، فكلما وصل الأسرى إلى طريق يقودهم نحو الهدف، وجدوا الاحتلال قد وضع حاجزًا مانعًا قبل الوصول بلحظات، وتواصلت المحاولات، لكن أيًّا منها لم تتكلل بالنجاح.

ويوضح نائل أنه بعد تحرره سعى للالتحاق مجددًا بسلك التعليم محاولاً استعادة جزء من حياته الطبيعية، فلم يجد أبوابًا كثيرة قد فتحت للدخول عبرها نحو غرفة تعليمية، وفي أشد لحظاته عسرًا، وجد أمام عينيه ما يذكره بمقعد صفي كان قد نقش عليه خارطة وطنه العربي، جامعة القدس المفتوحة، يقول نائل: "حالما رأيت شعار الجامعة، تذكرت مقعدي في المدرسة، وعلمت أن حلمي قد أصبح أقرب للتحقق".

في جامعة القدس المفتوحة، وجد نائل وكثير من الأسرى المحررين ضالتهم، حيث وجدوا كل المساعدة من إدارة الجامعة، سواء عبر المنح أو التسهيلات الدراسية، إلى جانب أن التعليم الجامعي في جامعة القدس المفتوحة لن يحول دونه ودون حياته الاجتماعية الاعتيادية، حيث المشاركة في المحاضرات أكثر مرونة، ولا تستوجب الحضور اليومي بفعل المحاضرات والصفوف التعليمية الافتراضية. ولم تفت نائل الإشارة إلى أن زوجته الأسيرة السابقة قد أنهت تعليمها الجامعي في رحاب جامعة القدس المفتوحة، وأن تجربتها في الجامعة كانت حافزًا له للالتحاق بها.

 

حكاية البداية.. وبرتقال يافا

يجلس نائل على أحد المقاعد الدراسية في فرع رام الله التعليمي. يقول إنه منذ الصغر كان كباقي أقرانه يكتسب التنشئة الاجتماعية من والديه، فيستمع إلى تجارب والديه ويعايش بعضها حين تسنح الفرصة، وكان للشعر العربي الأثر الكبير في صقل شخصية الفتى الثائر، كان يجالس والده في ليالي صيف طفولته موجهًا بوصلة بصره صوب ساحل فلسطين والأضواء المشعة من بعيد، وكان يستمع للقصص من والده عن الساعات التي كان يقضيها في رحلة جلب البرتقال اليافاوي العطر، ويستوقف نائل والده عن سبب انقطاع هذه الرحلات، فيجيب الوالد "راحت يافا".

وعلى أمل عودة يافا، يستطرد نائل في حديثه عن مشاهداته للاجئين الفلسطينيين من قرية بيت نبالا، التي كانت قبل النكبة مصدر الرزق الأساسي للعديد من أبناء قريته، حيث كانوا يعملون في مقالع الحجر والكسارات.

ويقول نائل إن أحد المشاهد التي كانت تستوقفه لدى ذهابه لقرية بيرزيت اصطفاف اللاجئين في طوابير للحصول على بعض احتياجاتهم.

في ذروة النشاط الفكري والأيديولوجي في الوطن العربي عامة وفلسطين خاصة، تسارع الناس للالتحاق بركب الحركات والأحزاب الماركسية والقومية وغيرها، وهنا يسرد نائل قصة التجاذبات والنقاشات الحادة التي كانت تسود أجواء الحديث بين المنتمين سياسيًّا ذلك الوقت، وإنه حتى يستطيع الالتحام في الجدالات، كان يذخر نفسه ببعض المعلومات عن هذه الأيديولوجيا وتلك.

 

المغادرة نحو القدر الجديد

عام 1978، وتحديدًا في الرابع من أيار، اعتقل جنود الاحتلال الإسرائيلي نائل البرغوثي من قريته كوبر نحو قدره الجديد، حيث الإقامة الجبرية اللامنتهية الصلاحية، حينها أدرك أن موعد استحقاق دفعة الانتماء لوطنه قد حانت، وبأنه سينتقل إلى وطنه الوجداني مبتعدًا عن ذاك المادي، وعن موسم قطاف الزيتون وسمسم والدته وزعترها. لكنه في الوقت ذاته، سيكون أكثر قربًا لبرتقال يافا ورياح صحراء وطنه.

مرت سنوات عمر نائل سريعة بعض الشيء ومتثاقلة حينًا آخر كلما استجد حدث في وطنه أو مسقط رأسه كوبر، إلا أنه كان يتابع مجريات العملية السياسية أولاً بأول وخاصة عندما بدأت عملية التفاوض السياسي تأخذ منحى أكثر جدية أوائل التسعينيات.

وهنا يقول: في منتصف شهر كانون الثاني عام 1996، انطلقت حافلة تقل 55 أسيرًا فلسطينيًّا من سجن السبع إلى نفحة، وكان حينها يطلب من كل أسير ذكر انتمائه السياسي حتى يتم توزيعهم وفقًا له، وحينما حان دوره، سأله سجانه عن انتمائه، لكنه رفض الإجابة، فما كان من السجان إلا أن أوقفه جانبًا ريثما ينتهي من توزيع باقي الأسرى. عاد السجان مجددًا ليتفرغ لسؤال نائل عن انتمائه، لكنه لم يلن، ثم نقله إلى غرفة مجاورة عله ينهي مسلسل هذا السؤال. نائل، وبدلاً من أن يجيب، بادر السجان بسؤاله عن انتمائه السياسي، وما إذا كان متمنيًا لحزب "العمل" أو "الليكود"، فرد السجان: "إنت شو علاقتك؟"، فأجابه نائل على الفور بذات الإجابة. في هذه اللحظة، بدأ السجان يبدي علامات استنفاد صبره، ففاجأه نائل برغبته أخيرًا في الإجابة، ابتسم السجان معلنًا انتصاره المبكر المتمثل ببعض الأحرف التي تشير للانتماء السياسي، وهنا تنهد نائل وقال للسجان: "اجلب ملعقة صغيرة كتلك التي تحرك بها سكر قهوتك الغربية، واجلب قدر ملعقة من وجع كل أرض وشعب مضطهد من كل العالم، وضعها جميعًا في وعاء الخلاط الكهربائي واخلطها جيدًا حتى تصبح كثيفة الامتزاج، ونتائج عملية الخلط هي انتمائي السياسي والإنساني". حينها، بدا وكأن السجان دخل في غيبوبة لأنه لم يتوقع هكذا إجابة، وفور عودته لعالم الواقع واستدراك بعض طاقته الذهنية، صاح بصوت عالٍ، طالبًا من نائل المغادرة فورًا. غادر نائل مبتسمًا ومنتصرًا، وظل السجان شاعرًا بمقدار كبير من الهزيمة.

 

جغرافيا الوطن والمكالمة الأخيرة

يتحدث نائل عن تفنن المحتل في تجريب أشد أنواع التعذيب للأسرى وأهلهم، ويقول: ليته كان جسديًّا فيزول بزوال الفعل، لكن أساليب التعذيب النفسي اللاإنسانية صاحبة الأثر الطويل المدى، هي تلك التي تهز جسر الثقة الداخلي في قلب كل الأسرى وأهلهم، والخوف كل الخوف من تقطع أسلاك ذاك الجسر.

ويقول إن والدته المرحومة اعتادت خلال سنوات أسره الطويلة التنقل بين هذا السجن وذاك، وكان هو يشعر بمقدارين متساويين من الفرحة والألم، فرحة للقاء والدته، وألم لعذاباتها الناجمة عن المعاملة القذرة من المحتل لها. في إحدى مرات الزيارة النادرة، اعتذر نائل لوالدته عن مقدار العذاب ذاك، لكنها قاطعت اعتذاره سريعًا لتعبر له عن مدى سعادتها بالتجربة الفريدة التي تعايشها جراء  تنقلها وتعرفها على جغرافيا الوطن المغتصب.

قبيل حريته بسنوات، منعت إدارة الاحتلال والدة نائل من تكحيل عينيها برؤيته وإن كانت من خلف القضبان، وبعد جهد جهيد، وتدخل القيادة الفلسطينية، سمحت إدارة الاحتلال بزيارة كانت بالنسبة لنائل أشد إيلامًا من عدمها، فهذه المرة يشاهد نائل والدته على سرير المرض الذي أنهك قواها وامتص آخر قطرات الصبر في جسدها وروحها. ليلة التاسع عشر من كانون الثاني عام 2005، وبينما يسهر نائل بجوار شقيقه منتظرين موعد السحور ليعينهما على صيام اليوم التالي، ويستمعون في الوقت ذاته لأثير برنامج خاص بالأسرى عبر إحدى المحطات الإذاعية المحلية، يروي نائل: "كان البرنامج قد شارف على الانتهاء، بدلالة إشارة مذيع البرنامج إلى أنهم سيتلقون الاتصال الأخير، وفي تلك اللحظة، قمت بدفع شقيقي الذي يرقد بجواره قائلاً له: "حاسس إنها الحجة راح تحكي هسا"، ولم يخب إحساسي، فقد كانت والدتي صاحبة الاتصال الأخير لهذه الحلقة، وكما اعتادت، بدأت تبث بداخلي جرعة جديدة من المعنويات وبصوت قوي رددت عبارتها الشهيرة "درهم شرف ولا بيت مال"، وبعيد انتهاء المكالمة، قلت لشقيقي "صوت الحجة لسا قوي وبتتحمل كمان كم زيارة".

في صبيحة اليوم التالي، وحالما عاد نائل من قضاء حاجته الصباحية، وجد العديد من رفاق الأسر في خيمته، فتساءل سريعًا عن سبب تواجدهم، ظانًّا أن تفتيشًا أو حركة تنقلات قد حدثت، لكنه سرعان ما استشف أن حدثًا جللاً قد حل، وباحتضان أحد الأسرى له، أدرك أن والدته قد فارقت الحياة، وهذه المرة لم يصدقه إحساسه بأنها ستكون قادرة على اجتياز صعوبات زيارات قادمة.

لم يكن تشرين الثاني هذا وحده الذي ترك الألم في وجدان نائل، ففي الثامن من تشرين الثاني عام 2004، فقد نائل والده أيضا، في قصة ملؤها الدراما.

 

الوفاء للأحرار والحرية

خلال أسره، اعتاد نائل على تقبل فرضيتين اثنتين لا ثالثة لهما: فإما فرضية الحرية أو فرضية الشهادة، على اعتبار أنه حكم بالسجن مدى الحياة، وبقيت هاتان الفرضيتان تلازمانه صباحًا ومساءً، حتى تلك اللحظة التي علم بها بأن فرضيته الأولى أصبحت أكثر قربًا من تلك الثانية. شريط مصور لثلاثة وثلاثين عامًا أمضاها في الأسر عرضها دماغه أمام عينه، وكأنه مقطع مصور مدته ثلاث وثلاثون ثانية، لكن مشاعره لم تنم عن فرحة غامرة تنتاب أي متعطش للحرية، ليس لأنه لا يريدها، بل لأنه أدرك حينها أنه سيعود إلى ذلك البيت الذي طليت جدرانه الداخلية باللون الأبيض المبهج، ولكن البهجة الحقيقية ستكون غائبة بفعل غياب والديه، وهذا ما تحقق فعلاً، ففي الثامن عشر من شهر كانون الثاني عام 2011، وحالما فرغ نائل من أحضان المستقبلين له، دخل الغرفة البيضاء وبدأ يتنقل بين جدرانها، بحثًا عن والديه أو عن أقل الأشياء التي خلفاها له حتى يتذكرهما، فوجد بعضها، لكنه لم يجدهما.